شبهات العاذرين بالجهل
******************
الشبهة الثامنة :
ومـن يشاقق الرسول
________________
احتجوا بقوله سبحانه وتعالى من سورة النساء: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا
[النساء: 115].
وكذلك قول الله سبحانه وتعالى في سورة محمد: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
[محمد : 25].
قالوا: فقد شرط الله تعالى لثبوت العقاب عليهم أن يكون فعلهم: مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الآية.
قلت: هذه الآية مع أنها تتكلم في غير موضع النزاع أصلا، وهو حكم من خرق التوحيد وتلبس بالشرك وعبد غير الله تعالى في الدنيا، بغض النظر عن كونه معذبا يوم القيامة بكفره أو معذورا بجهله ( زعموا )، بالرغم من ذلك فهذه الآية لا تصلح لهم حجة على دعواهم أبدا بأنه لا يعذب إلا من كانت صفته ' المرتد '. ومن شاقق الرسول بعدما تبين وعلم وذلك إنما تتحدث الآيتان على حالة واحدة وصفة معينة، من حالات المعذبين وأهل النار، ولكنهما لم تنفيا وجود غيرهما أصلا.
أما آية النساء فهي تتحدث عمن شاق الرسول بعد العلم وتبين الحق ونحن نعلم يقينا أن من الكافرين المعذبين من يموت شاكا في البعث وفي الرسالة وقضايا الإيمان الأخرى، غير متبن للحق فيها ولا عالما بها بنص قوله تعالى: وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
[سبأ: 21].
وقوله: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
[الرعد: 19].
وقوله: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
[التوبة: 97].
وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ
[الأنبياء:24].
وقوله سبحانه:يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18 ].
وغير ذلك من النصوص الكثيرة المستفيضة، التي تجزم أن من الكافرين المعذبين من هو شاك في قضايا التوحيد، غير فاهم لها وعالم بها،
أما سورة محمد فهي تتحدث أيضا عن حالة واحدة من حالات الكافرين ونوع من أنواعهم، وهو من ارتد بعد إيمانه، وليس كل الكافرين مرتدين كفرا بعد إيمان ومن زعم ذلك فقد كابر وبغى، فمن المقطوع به أن من الكافرين المعذبين من لم يدخل الإسلام ابتدءا، بل جماهيرهم كذلك، وجماع القول في هاتين الآيتين، أنهما تتحدثان عن حالة واحدة من حالات الكافرين المعذبين، وليس عن ذلك أنهما تنفيان حكم من هم بغير هذه الصفة، اللهم إلا تأتي قرينة قطعية تجزم بنفي هذا العذاب عمن هم بغير هذا التقييد للوصف، هذا بيان واضح للآيتين.
والحقيقة أن هذا النمط من الاحتجاج هو ما يعرف بمفهوم المخالفة أو دليل الخطاب كما يسميه بعض الأصوليين، وهو على التحقيق والصواب لا تقوم به الحجة بمجرده، اللهم أن تحتف به أو بغيره من القرائن القطعية التي تفيد إثبات ما ذهب إليه المحتج به ونفى ما عاداه، فحين نسمع قول الحق سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 130 ]
لم يكن من الفقه والعلم، أن يقول أحد من الناس بأن ما كان من الربا بغير هذا التقييد في صفته، فهو غير منهي عنه وإنما الحق والصواب هو القول بأن هذه الآية إنما استدللنا منها على تحريم صفة وحالة واحدة من حالات أكل الربا، وهي أكله أضعافا مضاعفة، ولكن لا ينفي هذا أن يكون هناك ما هو محرم من الربا وهو بغير هذا التقييد في الوصف، يعلم ذلك بالنصوص الأخرى لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
[ البقرة: 278 ].
وغيرها من الآيات التي تتحدث في ذات الموضوع. ومثل ذلك في مفهوم آيات عديدة كقوله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
[المؤمنون الآية: 117].
فلا يفهم من ذلك دعوة للنِّدُية بالدليل والبرهان، ومثل ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
[البقرة : 61 ] .
لا يفهم من ذلك أن هناك قتلا للنبيين بالحق في المقابل، وكذا في قوله تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا [لقمان: 15].
فلا يفهم من ذلك أن هناك شرك بعلم أو يعلمه، ومثل قوله تعالى:وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
[النحل: 08 ].
لا يفهم من ذلك نفي شرعية الاستعمال بغير هذا التقييد في الصفة إلا بأدلة أخرى من خارج هذا النص.
وبالجملة فدليل الخطاب لا يفيد حجة ملزمة بمجرده، وإنما يفيد فحسب إثبات الحكم الخاص بالحالة التي قيدها من غير إثبات ولا نفي لغيرها من الحالات، وفي هاتين الآيتين هما مدار النقاش هنا، يتحدث الله سبحانه عن حالة واحدة من حالات الكفار المعذبين أو حالتين، وهما المرتد الذي كفر بعد إيمان، ومن شاقق الرسول بعد العلم والتبيان، فلزم إثبات الحكم الذي قررته الآيتان لمناط الحكم الذي قيدته، من غير إثبات ولا نفي لغيرهما اللهم إلا أن يأتينا المخالف بدليل آخر يفيد جزم ما ذهب إليه، أما قبل ذلك فلا حجة له وبذلك يسقط استدلالهم من الآيتين وبالله التوفيـق.
_____________
يتبع ان شاء الله / منقــــــــــــــول
0 التعليقات :
إرسال تعليق