صفحتي

صفحتي
مدونة ياقوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره
الجمعة، 16 ديسمبر 2016

(١٩) مسألة العذر بالجهل في التوحيد

شبهات العاذرين بالجهل
********************
الشبهة الثانية :

حـديث الرجل الذي ذرى نفسه

احتجوا بحديث الرجل الذي ذر نفسه ونص هذا الحديث في الصحيح: عن أبي هريرة أن رسول الله قال: قال رجل -لم يعمل حسنة قط- لأهله، إذا مات فأحرقوه ثم ذروا نصفه في البر، ونصفه البحر فوا لله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحد من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا، قال: مـن خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر له [رواه البخاري ].
قالوا: فهذا الرجل شك في قدرة الله تعالى ومع ذلك عذره الله بجهله وسوء فهمه،
قلت: في البداية وحتى تتحدد جوانب القضية، ولا تختلط المفاهيم بما يروق للمبطلين الموهمين، أقول: من أجل ذلك لزم التنبيه على أن هذا الحديث لم يتعرض لصلب القضية ومدارها وهي: هل كان هذا الرجل مع قولته التي قال- لو صح تأويلهم لها – هل يكون حكمه في الدنيا كافر أم لا؟. هذا هو مدار النزاع وهو ما لم يتعرض له الحديث، فلزم التنويه والتنبيه على أن ما يأتي من جوابنا على فهم المخالف من هذا النص إنما هو في قضية عذاب المشرك بشركه أو العفو عنه بجهله هذا تمهيد ضروري للكلام حول هذا الحديث. أما جوابنا على فهمهم من هذا الحديث من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن مدار حجتهم على قول الرجل: لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا ومن هنا نقطع بفساد احتجاجهم من هذه القولة على دعواهم كلية.لأنها حسب مقتضيات اللغة لفظة مشكلة، هي مثل لفظ القرء في الآية: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ [ البقرة: 228 ]. فلفظ القرء يطلق في لغة العرب على الحيض وعلى الطهر، وكلاهما على وجه الحقيقة لا المجاز، ومن هنا انعدم الاحتجاج بأحد المعنيين دون الآخر بمحض هذه الآية، وإنما لجأ الفقهاء في ضبطها إلى القرائن كما تقرر في موضعه. وفي هذا النص - حديث الذي ذر نفسه- نقول نفس الكلام فلفظ قدر عليه يأتي في لغة العرب على ثلاثة معان كلها حقيقية فيه وهي: القضاء؛ التضييق؛ الاقتدار والقهر، ومن شاء وطلب التفصيل فليراجع الفيروز أبادي في القاموس المحيط وبن منظور في لسان العرب مادة 'قدر'، وقد ساق بن منظور شواهدها القرآنية بقوله تعالى: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [ الفجر: 16 ]. لمعنى التضييق، وقدر الله الخير وقدره بمعنى قضاه. إذا صح ذلك فقد علمنا يقينا بطلان الاحتجاج بهذا الحديث وهذا اللفظ الوارد فيه، على أنه جاء بمعنى الاقتدار والقهر، بمعنى أن الرجل شك في قدرة الله تعالى، وصح أن من زعم ذلك فإنما تحكم بمحض الهوى والتلذذ، أو قصور عنده في تمحيص الدليل، ثم نحن نكلفه البينة ولا بينة له هنا، وهذا بيان واضح بفضل الله لا لبس فيه ولا إشكال، ففسد دليلهم بالمرة. بيد أنني أقطع بأن لفظ القدرة هنا لا يكون إلا بمعنى التضييق أو القضاء، ولذلك لقيام القرينة على بطلان معنى الاقتدار والقهر هنا، وبيان ذلك: أن الذي ندين الله به ونشهده عليه أن من جهل قدرة الله تعالى أو شك فيها أو تصور أن الله تعالى سبحانه يعجز عن جمع رفاته بعد موته، فلا شك لدينا في أنه يعبد إلها آخر غير الذي خلقه من قبل ولم يكن شيء مذكورا، وأنه لا يؤمن بالله العظيم جملة ومن حيث الأصل.
أقول: إن هذا الكافر الخاسر الذي يظن مثل هذا الظن ويشك مثل هذا الشك، نحن لا نشك أنه يعبد إلها آخر غير الذي خلق السماوات السبع والأراضين، وسخر الشمس والقمر والنجوم والكواكب والرياح وينزل الغيث ويصرفه كيف يشاء، وخلق الإنسان من نطفة من ماء مهين، وموجد الخلق ولم يكن مثله شيئا مذكورا، والذي يبعث الخلق يوم الفصل من لدن آدم إلى قيام الساعة بنداء واحد وصيحة واحدة، فيخرجون من الأجداث بعد أن كانوا رمادا ورفاة ضالة في الأرض، أليست كلها لازمات بديهية للعلم بقدر الله تعالى، فإن كان ثم من يشك في قدرة الله تعالى وما يؤول إليه هذا الفهم والتصور، فنبئوني يرحمكم الله أي إله هذا العاجز الذي يعبده؟؟. وهل هناك كفر وشرك أفحش من هذا، وقلتم أنه غفر له، وأنه لم يحبط عمله به والحق يقول: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65 ]. ويقول عز وجل: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [ النساء: 48].
فقلتم: بل غفر الله له، مع زعمكم بأن ما فعله هو شرك وخرق للتوحيد. وهل هذا الكافر الضال الذي ظن هذا الظن بالله إلا كسلفه من الضالين الفاسقين الذين حكى الله عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ [المائدة: 64 ]. وكذا من حكى الله سبحانه وتعالى عنهم: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [ آل عمران: 181 / 182 ] .
وقد نقل الاجماع غير واحد :" من جحد صفة القدرة كفر اتفاقا ".

أقول: هذا هو الحق ولا يصح غير ذلك مطلقا.
الوجه الثاني: أما اعتراضهم بإنكار توافق معنى القضاء والتضييق بنية أن يحرقوا جسده ويذروا بعضه في البر وبعضه في البحر، فهذا اعتراض غير فقيه ولا بصير، ولو نصحوا للعلم والفقه لعلموا أن في الشرائع التي كانت هناك صور مختلفة للتكفير عن السيئات والذنوب والتوبة إلى الله، قال تعالى عن بني إسرائيل: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة : 54 ]. روى النسائي وبن جرير بن أبي حاتم عن بن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى أن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن...
وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء: 66]. روى بن أبي حاتم بسنده إلى شريح بن عبيد قال: لما تلا رسول الله هذه الآية: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة وقال: لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل .
فظاهر الفهم الصحيح للنص أن هذا الرجل فعل ذلك ليكفر عما قصر في جنب الله، وعمل الصالحات كما ورد في النص - لم يعمل حسنة قط - وفي رواية - يبتئر - بمعنى لم يدخر عملا صالحا يلقى به وجه الله، توبة منه إلى الله، وإنابة إليه، فغفر الله له ما قصر من عمل الصالحات، وليس كما فهم بعض البسطاء من أنه فعلها ليعجز الله عن جمع رفاته، ويقهر عن بعثته يوم القيامة، فصح بطلان إنكارهم، وفساد اعتراضهم، ورد تمويههم.

الوجه الثالث: ما ذهب إليه بعض أهل العلم من أن هذا الرجل قال هذا الكلام وهو في حالة غلب فيها عليه الدهش والخوف وشدة الفزع، بحيث ذهب تيقظه وتدبر ما يقوله فصار في معنى الغافل والذاهل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها، وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته:" اللهم أنت عبدي وأنا ربك ". فلم يكفر بذلك للدهش والغلب والسهو.
قلت: وهذا نظر له وجاهته، وحوادث الأعيان تحتمل مثل ذلك ، وأما من اعترض بأن الرجل قال كلاما مرتبا لا يتوافق مع حالة الدهش والفزع، فهو اعتراض فاسد، وذلك لأن الفزع والدهش قد ينطبق ببعض العبارات والمعاني المرتبة في مفهوم محدد في بعض أحيانه، وهذا ليس بالمستحيل عادة لنقطع برده.

الوجه الرابع: وقد ذهب البعض إلى وجه آخر، وهو أن الرجل استعمل مجاز العرب في صورة مزح الشك باليقين وهو ما يسمى بتجاهل العارف كقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سبأ: 24 ]. فصورته صورة الشك والمراد بها اليقين، قلت: وهذا عندي وجه لا يصح لأن الشاهد عليه في ذات الحالة، والصواب ما قدمناه ولله الحمد والمنة.
وقد قال بعض أصحابنا كلاما طيبا في تعليقه على جملة التأويلات، التي ساقها العلماء لهذا الحديث، ولا بأس بسوق كلامه بنصه قال:" فإن قيل هذا الرجل جهل صفة القدرة فعذر بجهله، قلنا: فما الذي دفع العلماء إذن لصرف الحديث عن ظاهره واللجوء إلى تأويله، إذا كان الأمر عندهم بهذه البساطة؟؟. ألا يكفي أن يقولوا مثلا: هو جاهل معذور بجهله، وما كانت بهم حاجة إلى هذه التأويلات، إلا أن يكون العلماء قد رؤوا أن هذه القضية قضية عين لا تقوى على معارضة قواعد كلية ثابتة وأدلة مستفيضة سبق أن تقررت عندهم في صورة أصل كلي، مما أوجب أن تتنزل هذه القضية على مقتضى هذا الأصل وخاصة أن الحديث نفسه يحتمل أوجه كثيرة غير هذا الوجه الذي يعارض الأصل الذي تقرر.
--------------------
يتبع ان شاء الله / منقول

اعلان 1
اعلان 2

0 التعليقات :

إرسال تعليق

عربي باي