شبهات العاذرين بالجهل
الشبهة الأولى:
************
قال تعالى:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً
[الإسراء: 15].
قالوا: ' فصح أن الله لا يعذب أحدا إلا من بعد بعثة الرسول إليه، فالمشرك لا يعذب إلا من بعد الحجة الرسالية وقيامها عليه '.
قلت: لو صح فهمهم هذا من الآية على هذا الوجه ووافقناكم عليه "جدلا " لسقط اعتراضكم علينا في قضيتنا كلية، وهي إثبات حكم الكفر على من خرق التوحيد ولو كان جاهلا ولم تبلغه الحجة الرسالية، وذلك لأننا ما نتعرض لأمر العذاب أو العفو، وإنما يا أيها العاذرون : نحن نتحدث عن إثبات حكم الكفر وصفته عليه في الدنيا كتميز بين العباد وهو ما برهنا عليه سابقا فهذه قضية وتلك قضية فحاذروا من هذا الخلط وافقهوا مواقع الكلم قبل الخوض فيه.
ألا ترون أيها العاذرون أنكم خلطتم الأمور، أو اختلطت عليكم المفاهيم، فما تدرون على ما تدل هذه الآية، وعلى ما تعترضون على مخالفكم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فثبت أن الآية ليس فيها أدنى إشارة لموضوع كفر من خرق التوحيد في دار الدنيا وهو جاهل أو لم يأته نذير ؟ وإنما الآية تتحدث عن : هل هو في النار لكفره أم يعذر لجهله؟؟.
إذا صح ذلك أقول: لما تقرر أن كلام الله تعالى لا يختلف ولا يتعارض بنص قوله:وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا
[النساء: 82 ].
ولما سبق وتقرر من وجوب رد النزاع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تأويلا
[النساء : 59].
لما تقرر ذلك أقول: قد ثبت بوجه القطع واليقين مما قدمنا من دلائل الكتاب والسنة أن المشركين معذبون قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم حتى نجاهم الله ورحمهم ببعثته، ومن قبله كانوا معذبين مستحقين للنار ومقتهم الباري عربهم وعجمهم إلا بقية من أهل الكتاب ممن بقوا على التوحيد المحض.
أقول: قد ثبت ذلك أنفا ببراهين قطعية الدلالة لا مدفع لها ثم نظرنا إلى آية سورة الإسراء: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ...الآية.
فعلما أن الأمر لا يخلوا من أحد وجهين إما أن الذين نفى عنهم العذاب هنا غير الذين أثبت عليهم العذاب كما قدمنا، وإما أن العذاب المنفى هنا غير العذاب المثبت هناك، هذه نقطة بدء أولية لا محيص عنها لما تقرر من أن كتاب الله لا يضرب بعضه بعضا.
أما بالنظر لما دل عليه لفظ العذاب في الآية فنجد أنه لفظ مجمل ومحتمل في ذاته، فهو قد يعني العذاب الأخروي بالنار والعياذ بالله، وقد يعني العذاب الدنيوي بمعنى إهلاك القرى الظالمة التي كفرت بالله وأشركت به، وذلك مثل قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى
[طه : 134 ].
ومثل قوله تعالى أيضا: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131 ].
حيث قد جرت سنة الله في أن لا يدمر قرى الكافرين إلا من بعد إرسال الرسول إليهم، ولقد دل سياق آية الإسراء علي ذلك قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا
[الإسراء: 15 - 17] .
أقول: بل إن النظر والتأمل ليقع بترجيح هذا التأويل للآية وهو ما عليه جمهور أهل التفسير والعلم، جاء في تفسير هذه الآية:" والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا أي أن لله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار ".
أقول: اذا ثبت ذلك إنما يدل دلالة ظاهرة وصريحة أن الآية محتملة، تحتمل هذا المعنى وتحمل خلافه والقاعدة الأصولية تقول:" ما دخل فيه الاحتمال سقط به الاستدلال، ووجب حمله على القطعي إن عارضه". وهناك وجه آخر في تأويل الآية ذهب إليه جماعة من أهل العلم وهي أنها للأحكام الشرعية التي لا تثبت إلا بنص وليس في أصل التوحيد أو في عذر المشركين وهذا رأي له وجاهته، وهو احتمال قائم في ذات النص لا سبيل لأبطاله وسيأتي له تفصيل بعد حين جاء في تفسير الآية:وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً . وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلاف المعتزلة القائلين بأن العقل يحسن ويقبح، ويبيح ويحظر، ويقول النيسابوري:"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ _ في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع- إلا بعد مجيء الشرع".
ويقول الطبري:" أن الآية على التخصيص في ما لا يعرف إلا بالشرع من واجبات وفرائض وفروع الشريعة "
أقول: إن مدار- الحجة- على احتمالية الآية لإفادة هذا المعني في ذاتها، وما دخل فيه الاحتمال سقط به الاستدلال كما يقول الأصوليون، ونخرج من ذلك بأن الآية لا تفيد في ذاتها برهانا قطعيا لازما يقطع به المخالف يدل على رفع العذاب عن المشرك يوم القيامة لجهله قبل الرسالة، ولا يحق لمنصف أن يعارض بمثلها ما ثبت بوجه القطع واليقين من انقطاع العذر وثبوت الحجة بالميثاق والاشهاد، وثبوت العذاب للمشركين قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد ذهب جماعة من المحققين إلى تحقيق الكلام في الآية من جهة واقع دلالتها ومناط عملها، وحاصل كلامهم أن الناس قبل الفترة قسمان:
قسم تركوا ملة الشرك وبرؤوا مما عليه قومهم من خرق توحيد الله عز وجل، ولم يشاركوهم عبادة غير الله، ولكن وجودهم في زمن الفترة وانطماس أثر الرسالات والشرائع السابقة جعلهم يجهلون الشريعة التي يتقربون بها إلى الله عز وجل، فهؤلاء هم المعذورون بآية الإسراء وما شابهها، ولو صح حديث العرصات والأربعة. الذين يدلون بحجتهم لكان هذا منهم.
وقسم آخر ساقط في الشرك، متابع لما عليه أهل الشرك مشارك لهم غير عامل في البحث عن غير دينهم، سواء وجد غير هذا في زمانه أم لم يوجد، وهذا القسم غير معذور بجهله ولا يدخل في مقتضى آية الإسراء وحديث العرصات
أقول: وهذا تحقيق قوي متين، يدل على رجاحة قائله، ودقة نظره وهو أقوى تفصيل لآية الإسراء، ولا يجرؤ عاقل منصف على رده أو إبطاله، وكل هذه الاحتمالات والوجوه الثابتة تؤكد ما ذهبنا إليه من أن آية الإسراء ليست قطعية الدلالة في ذاتها على عذر المتلبس بالشرك ونجاته من عذاب يوم القيامة لجهله أو عدم بعثة الرسول إليه.
أقول: فأنظر يرحمك الله إلى هذا التحقيق مع أنه في من قبل البعثة وانطمست عندهم أثار الرسالة وكذلك قول من قدمنا من العلماء، ثم تأمل واقع الناس اليوم المنتسبين إلى الإسلام وما تواتر عندهم من العلم والبيان وحفظ الذكر من الاندراس والانطماس، لتعلم مدى فحش مخالفين عندما زعموا أن هؤلاء القوم هم من تنازع فيهم العلماء أمعذورون هم بجهلهم أم لا، اللهم فإليك نشكوا ونلجأ وأنت بصير بالعباد.
أعود فأذكر: أن هذا النزاع في قضية العذاب والعفو، والذي نحقق فيه الكلام الآن، هو في غير موضوع الخلاف الذي نحن بصدده أصلا، وهو ثبوت حكم الكفر على من تلبس بالشرك جاهلا قبل الرسالة وبعدها على حد سواء، فهذا هو ما لم يجرؤ ه المخالف حتى الآن على سوق دليل لإبطاله أو معارضته فلما رأى مخالفنا ذلك فيما احتجوا به راحوا يحشدون عدة آيات تتكلم عن تقريع الخزنة مثلا لبعض أهل النار مثل قولهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ
[ الملك: 08 / 09 ].
وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ
[الزمر: 71 ].
وقوله تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
[النساء: 165].
قالوا: فصح أن الحجة التي يحتج بها الخزنة على الكافرين هي الحجة الرسالية.
قلت: وهذا ليس بالاحتجاج الحسن، المبني على تمحيص الأدلة والنظر الدقيق واحتجاج بدليل خطاب لا بدليل نص وإثبات يفيد القطع، وقبل الجواب على احتجاجهم، أنبه إلى أن الآيات في غير موضع الخلاف الأصلي، وإنما نحن سنتكلم عنها استكمالا للتحقيق الذي قدمناه في قضية العذاب والعفو. أما احتجاج الخزنة على بعض أهل النار بقولهم :أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ ...الآية.
فهذا ليس بالحصر لأهل النار بدليل قول الكافرين في ذات النص: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ
[الملك: 09 ].
ونحن نعلم يقينا أن ليس كل الكافرين كذبوا الرسول ابتداء وكذبوا ما جاء جملة وعلى الغيب، ومنهم من صدق بالنذير وبما جاء به جملة ولكنه استهزأ ببعض الشريعة، ولو شعيرة منها، ومنهم من لم يكذب ولكن عبد مع الله إله آخر ولو بالتأويل الفاسد حتى بعد محاجته وإثبات بطلان ما هو عليه. ومنهم من صدق ولم يكذب ولكنه شرع للناس شرعة أحل بها وحرم وقضى بها في دماء الناس وأعراضهم كأحبار أهل الكتاب ورهبانهم ومن عبدهم، وليس الكفر هو مجرد تكذيب الرسول وما جاء به جملة، ومن قال بذلك فهو مقطوع بفساد عقله، أو تحديه للشريعة جملة، وكذلك نعلم يقينا أن هناك طوائف يحتج عليهم الباري بمحض الميثاق الذي أخذه عليهم وأشهدهم عليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟. قال: فيقول نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي
[ رواه مسلم ].
فهذا بيان واضح بأن الباري احتج عليهم بالميثاق لا ببعثة الرسل خاصة وذلك مصداقا لقوله تعالى: أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ
[الأعراف: 172 ].
فصح قيام الحجة بالميثاق، وانقطاع العذر بالبرهان القطعي والدليل البين، وكذلك نعلم يقينا أن عبد الله بن عبد المطلب وزوجه وبن جدعان وعمرو بن لحي وغيرهم ممن قدمنا بيان دخولهم النار ليسوا ممن يقولون: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [الملك: 09 ].
ثم نسألهم: هل أهل الفترة عندكم في النار أو في الجنة أم يختبرون في العرصات؟.
فإن قالوا في الجنة كذبوا، وكلفناهم الدليل ولا وجود له بإذن الله فضلا عن مخالفتهم للقاعدة الشرعية المتقررة في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة .
فضلا عن مخالفة ذلك لحديث الأربعة المحتجين على الله يوم القيامة. وهم يعتبرونه حجة على قولهم - وسيأتي - فلم يبق أمامهم إلا القول بأنهم في النار أو يختبرون في العرصات، فإن قالوا يختبرون في العرصات قلنا: فمن عصى منهم فهو في النار ضرورة....أليس كذلك؟؟؟.
فإن كان كذلك فقد صح أن هؤلاء الذين دخلوا النار منهم وصاروا من أهلها لا يصح الاحتجاج عليهم بقول الباري: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ
[الملك: 08/09 ].
أو بقوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ
[الزمر: 71].
أقول: لما صح ذلك لزمك التسليم معنا بأن هذه الآيات إما هي واردة في بعض أهل النار دون بعض، ويصح قطعا ما قدمناه من أن هذا الدليل دليل خطاب فاسد، إن أثبت صفة أو قيدا فهو لم ينف خلافها بيقين وقطع، وصح أن هذه الآيات لا تصلح لكم حجة على قولكم بحال، وبإذن الله تعالى سنزيد الكلام تفصيلا على دليل الخطاب عند جوابنا على استدلالا لهم بقوله تعالى:وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
[ النساء: 115 ].
وجماع القول هنا أن هذه الآيات هي حق في بعض أهل النار من جاءهم رسول فكذبوه وكذبوا بما جاءهم به جملة، أو من زعم أن الاسم الموصول الذي في قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
[الزمر: 71].
يفيد عموم الاستغراق للجنس، فدل على أن المقصود كل أهل النار، وكذلك لفظ: كلما في قوله تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ
[الملك: 08 ].
أقول: هذا تمويه فاسد، والحق والعدل أن هناك ألفاظا في العربية تفيد دلالة عموم الاستغراق للجنس ما دام لم تثبت غير ذلك بقرينة، فإن ثبتت وجب صرفها عن الاستغراق لأن دلالة الاستغراق فيها ظنية كما تقرر ذلك في الأصول، والقرينة إما أن تكون من ذات النص وإما أن تكون من خارجه، فقرينة النص من ذاته مثل قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
[آل عمران : 173 ]
فعلمنا بقرينة ذاتيه في النص أن الألف واللام هنا لا تدل على الاستغراق، فالناس الذين اخبروهم غير الذين جمعوا لهم، غير المؤمنين أصلا.
أما القرينة الخارجية فبي كثير في أحكام الشريعة كقوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم
[النساء: 24 ].
فلفظ ما يفيد الاستغراق لتحريم غير ذلك، ولكن ثبت في نصوص أخرى نقض هذا العموم ورفع حكم الاستغراق، لقول النبي :صلى الله عليه وسلم : لا تنكح المرآة على عمتها وخالتها
[ رواه البخاري ].
وكذلك لفظ كلما فهو مقرون في الآية بلفظ فوج: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ
[الملك: 08 ].
ولفظ فوج نكرة مطلقة، صح تقييدها في ذات النص بأن المقصود بها هم الذين كذبوا الرسول وما جاء به جملة قالوا: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ
[الملك: 09 ].
فيعود الكلام فيها على التحقيق السابق والحاصل هنا أن اللفظ قد يدل على الاستغراق ما لم يثبت صرفه عنه، فإن ثبت وجب صرف، وفي هذه النصوص ثبت أن الاستغراق ليس على العموم بقرينة قطعية من أدلة أخرى خارج النص، هذا فضلا عن أن عموم الاستغراق دلالة ظنية لا قطعية كما هو مقرر في الأصول إلا من شذ من الحنفية.
أما الجواب على استدلالهم من الآية: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
[النساء: 165 ].
فكما قدمنا مدار الدلالة في النص مناط عمله وهم الناس فلفظ الناس هنا عامة لم تحدد صفة هؤلاء المعنيين بالآية، هل هم من تابعوا قومهم بالشرك وعبدوا غير الله واستناموا لذلك، أم هم من تبرؤا من الشرك ولم يجدوا الشريعة التي يتوبون بها إلى الله، ويدخل في ذلك طوائف عدة من العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصناف اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم كما تقرر ذلك قبلا
وكذلك لفظ 'حجة' فموضوع العذر ليس مقصودا على نقض التوحيد، ومن زعم ذلك في الآية كلفناه الدليل والبرهان، وقد كان جائزا في حق الله تعالى أن يعذب الناس على ما يقترفونه من المعاصي والفواحش الظاهرة التي تنكرها الفطرة المستقيمة كاللواط والزنى وأكل الربا وتطفيف الميزان والظلم ووأد الصغار ونحو ذلك.
فكل هذه المعاصي تدخل في مجال العذر، ويصح القول بأن الله عذرهم فيها ورفع عنهم العذاب بها رحمة بهم إلا من بعد الرسول، وقد سبق أن نقلنا لك ذلك
أقول: إنما الحجة في أن الآية تحتمل هذا الوجه، فوجب ولزم الصرف عليه لما ثبت وتقرر من انقطاع العذر وقيام الحجة بالميثاق والاشهاد، وثبوت عذاب المشركين بشركهم قبل البعثة ولا حجة لهم عند الله، وهذه قواعد في الفهم لا ينكرها ذو عقل سليم، وهذا تحقيق أصولي واضح جلي مبني على توفيق الأدلة الشرعية وفهمها وفق أسس الفهم المتفق عليها، لا على أسس الرأي المجرد والتقليد المقنع كما يفعل مخالفونا، وقد ذهب بعضهم للاحتجاج بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
وليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين . وفي ما يبدوا أن لفظ العذر قد استهوى القوم فصاروا يطيرون به كل مطير، كلما عثروا عليه في ثنايا النصوص دونما تحقيق لمناط حكمه، ومدى قطعية دلالته على نوعية معينة من الناس وهم من تلبسوا بالشرك جاهلين به قبل الرسالة أو بعدها، وجامع الجواب هنا أن النص لم يتعرض لموضع الخلاف وهو ثبوت حكم الكفر على من تلبس بالشرك في واقع الناس وظاهر الحال وإن كان جاهلا، قبل الرسالة وبعدها وكذلك لفظ العذر هنا مطلق ويمكن تنزيله على منازل متعددة لا على صفة وحدها محددة على وجه الحصر والقطع، فجائز صرفه على أهل القرى الظالمة وإمهال الله لها وعدم إهلاكهم إلا بعد البعثة إليهم. وجائز صرفه على أهل المعاصي والفواحش الظاهرة التي تنكرها الفطرة المستقيمة كاللواط والزنى والظلم ونحو ذلك، وجائز صرفها على تفصيل من اجتنب الشرك وتبرأ من عبادة غير الله ولكن جهل ما يتقرب به إلى الله من شرع، وبين من لابس ما عليه أهل عصره من الشرك واستنام لذلك كما قدمنا تفصيل كل ذلك منذ قليل.
وحاصل هذه النصوص التي احتج بها المخالف في هذه النقطة أنها دلت على مطلق العذر فكانت ظنية الدلالة محتملة من حيث الابتداء. فبطل أن يعارض بها الدلائل القاطعة على قطع حجة المشركين بجهلهم يوم القيامة، فصح أن تلك الأدلة تفيد لمطلق آيات العذر وتخصيص لعمومها وتفصيل لمجالها.
أعود مرة أخرى لأذكر وأنبه على أن الخلاف الطويل السابق والذي حققنا فيه الكلام بحمد الله إنما هو في مسألة عذاب المشركين الجاهلين يوم القيامة بشركهم أو عذرهم بجهلهم، وهذا خلاف أصل القضية المطروحة في هذا البحث وهي: لزوم صفة الكفر وحكمه على كل من خرق التوحيد، وتلبس بالشرك سواء أكان جاهلا أم عالما، مقلد أم معاند، كل ذلك سواء.
فيلخص لنا بفضل الله أدلتنا القاطعة التي سقناها سابقا على قولنا، لأن المخالف في هذه النقطة لم يأتي بأي دليل معارضا لها فضلا عن يكون قطعي الدلالة، وإنما كل ما ساقوه من أدلة واحتجاجات إنما هي في عذاب المشرك الجاهل وعذره، ومع ذلك فقد حققنا الكلام فيها بما تفضل الله به علينا، ويسره بلطفه، وبما يجلو به وحق الحق والله الموفق
_________________________
يتبع ان شاء الله / منقول
0 التعليقات :
إرسال تعليق