البرهان الرابع:
قال تعالى:
وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا
[ آل عمران: 103 ].
فصح بنص الآية أن العرب المشركين قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مستوجبين لعذاب النار أي كافرين مع أنهم كانوا قبل الحجة الرسالية، إلا من نجاه الله ببعثة النبي وإتباعه النور الذي أنزل معه.
أقول:هذا برهان ليس هو نص الآية فحسب وإنما هذه الآية هي قاعدة شرعية عامة ومضطردة، فيدرج تحتها كافة النصوص المستفيضة في الكتاب والتي تتحدث عن رحمة الله للناس ببعثة النبي. وأنه نجاهم به من الهلاك المبين، وأنقذهم به من النار ونحو ذلك، وهذا برهان نظري عقلي شرعي بديهي وذلك أنه لم يكن هؤلاء العرب قبل البعثة كفارا مشركين، فضلا عن كونهم معذورين معفى عنهم ما هم فيه ومن عذاب الله هم ناجون، فأي رحمة جاءت لهم، وأي نجاة نجوها، وأي إنقاذ أنقذوا منه، إلا أن يكونوا كفارا مشركين مستوجبين لعذاب الله وبطشه، فرحمهم الله ببعثة النبي، مذكرا إياهم بالله وهديه وأيامه، فمن تبعه هدي ونجا، ومن استمر على كفره وضلاله خسر وذل، هذا بيان واضح تدركه كل فطرة مستقيمة
ولا يتعرض علينا هنا بقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً
[ الإسراء: 15 ].
لأنها مجملة من حيث الواقع فيما قبل الرسالة، ومحتملة بالنظر للفظ العذاب على ما سنبينه بتوضيح شديد إن شاء الله فيما بعد، وعلى وجه العجالة هنا أقول: أن أقوى تفصيل لإجمال هذه الآية أنها لا تقع فيمن سقط في الشرك واستقام لما عليه قومه من الضلال، وإنما هي فيمن رأى ما عليه قومه من الشرك فأجتنبه وتبرأ منه ولكنه عجز عن درك ما يتوب به إلى الله سبحانه من الطاعات والعبادات
والحجة في كون الآية مجملة من حيث واقع ما قبل الرسالة وظنية من حيث احتمالية لفظ العذاب على ما سيأتي بإذن الله لها من توضيح.
عن مسروق قال: قالت عائشة: يا رسول الله إن بن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟. قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب أغفر لي خطيئتي يوم الدين
[ الحديث رواه مسلم ].
فصح أنه يقينا أنه محاسب على شركه مع أنه تمض عليه الحجة الرسالية؛ عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار ،فلما قضى الرجل دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار
[ الحديث رواه مسلم ].
وهذا برهان قطعي الدلالة يؤكد ما دل عليه سابقه.مع الآية المباركة التي سقناها، مع القاعدة التي قررنها من مستفيض النصوص القرآنية وهو يثبت بالقطع صحة من ذهب الى القول بتقسيم أهل الفترة ومن هم قبل الرسالة،
بيد أن هذا الحديث فيه نكتة زائدة رائعة، قسمت ظهر المخالف، وذلك أن بعضهم اعترض على الحديث السابق بقوله:' إنها وقائع فردية لا تتعدى أصحابها ' ومع ظهور فساد هذا الاعتراض وبطلانه، إلا أن حديث أنس جاء فيه أن الرجل بعد أن ولى ناداه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبي وأباك في النار
فالنبي أراد أن يقرر للرجل ولمن حوله قاعدة عامة ليست فقط مختصة بأبيه وحده وإنما هي عامة في أهل الجاهلية.
وقد صح ذلك في حوادث أخرى كأم النبي صلى الله عليه وسلم وعمرو بن لحي وغيرهما.
ولما ضاق المقام ببعض مخالفينا قالوا: إنهم كانوا على بقية من دين إبراهيم كانت كافية لإقامة الحجة عليهم، ولو نصح القوم لأنفسهم ودينهم لاستحيوا من مثل هذه الاعتراضات، ولكن الله أراد أن يفضحهم بذات كلامهم، فأصبحوا عن كونهم لا يدركون حتى حدود القضية التي يتكلمون فيها.
يا قوم إذا كان أهل زماننا نحن فيمن توافر في بيت كل امرئ منهم أكثر من نسخة لكتاب الله الكريم بنصه وحرفه كما أنزل على النبي المرسل، وتوافرت كتب التفسير، وكتب السنة والحديث، وكتب الفقه، وغيره حتى تفشى العلم بما لا يجهله إلا معرض غافل بمحض اختياره ورضاه، وقاسى الدعاة لهذا الأمر في كل جانب وكل يوم في أركان البلاد، وقتل من قتل وصلب من صلب، وسجن من سجن، وذاعت أخبارهم في كل صوب وحدبة، إذا كان هؤلاء كما قلتم أنهم معذورون، بجهلهم وقلة العلم بآثار الرسالة وقلة من يقوم بالبيان لهم، فبربكم أخبروني: كيف كانت الكتب السماوية وصحف إبراهيم وموسى؟. محضا لم تشبه شائبة طمس أو تبديل، فضلا عن تفسيرات العلماء لهم وشروحها وذيوع من يقوم بالدعوة إليها بحيث أجزتم لأنفسكم أن تقولوا أنهم غير معذورون بجهلهم وقامت عليه الحجة بما يقطع العذر وينفي الشبه، بينما أهل زماننا وقد علمت عنهم ما علمت،
قلت: أنهم هم المعذورون بجهلهم وقلة العلم بآثار الرسالة فيهم...نبئوني بعلم إن كنتم صادقـين ؟؟؟.
وإن كنتم تحتجون على شرط الحجة الرسالية لانقطاع العذر بقولكم أن الكافرين يحتج عليهم يوم القيامة بقول آخر هو: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ
[ الملك: 08/09 ].
أفلا ترون معي أيها العاذرون أن عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب وعمر بن لحي، وبن جدعان وأبو من قال له النبي أبي وأبوك في النار، ألا ترون أنهم سيحتجون بأنهم ليسوا من أهل هذه الصفة المذكورة؟.
أيها العاذرون : هل ترون معي أن أبا النبي صلى الله عليه وسلم وأمه وابن جدعان وغيرهم وعامة مشركي مكة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، هل ترون أن الحجة الرسالية قد أقيمت عليهم قياما عينيا - كما تشترطون - بما يوجب العلم في ذاتهم، وانقطاع الشبه، وبأن فساد مذهب عمر بن لحي وأمثاله،
ثم أبى هؤلاء بعد كل هذا البيان إلا الرضا بدين الكفر والشرك بالله وهم يعلمون ؟؟. فمالكم كيف تحكمون؟؟؟. ولقد حكى القرآن الكريم عن أهل مكة احتجاجهم على النبي بقولهم: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ
[ ص: 07 ].
بل كانوا يتعجبون من دعوته ويستغربون منها بقولهم:
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
[ ص: 05 ] .
أيها الناس: إن هذه الدعوة لهي أعظم بيانا على اختلاف المعاني في أذهان وضمائر القائلين بعذر جاهل التوحيد واضطرابها في أفكارهم، ثم هم بعد لا يزالون يفتنون الناس ليضلوهم بأفكارهم بغير علم.
أقول: وهذه الأحاديث مع الآية السابقة؛ مع القاعدة المبينة آنفا أدلة وبراهين قطعية على معاقبة المشركين بشركهم، لو جهلوا أو قلدوا ولم يبعث إليهم رسول، وهذا هو المذهب الصحيح في هذه القضية كما سنوضحه بعد قليل إن شاء الله عند تحقيق الكلام عليها، بما يزيل الإبهام ويرفع التعارض عن أي كتابه قال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا
[ النساء: 82 ].
فالعذاب الذي نفاه في سورة الإسراء، غير الذي أثبته في البيان السابق أو حال هؤلاء غير حال هؤلاء يقينا على ما سنبين بإذن الله تعالى.
يتبع ان شاء الله / منقول
0 التعليقات :
إرسال تعليق